رأيمستجدات

عودة الروح

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

تستأنف اليوم، جريدة “رسالة الأمة” صدورها الورقي، بعد أزيد من ثلاثة أشهر من تعليق الطبع كغيرها من الصحف والمجلات والمطبوعات الوطنية والدولية، جراء الخضوع لإجراءات الحجر الصحي وحالة الطوارئ الصحية بعد تفشي وباء كورونا، وما ترتب عنه من تداعيات وقف أنشطة العديد من القطاعات والمقاولات أو خفضها.
ورغم تعليق طبع الجرائد والمجلات، فإن الجريدة واصلت رسالتها الإعلامية دون توقف، عن طريق البديل الرقمي الذي مكنها من الاستمرار في التواصل مع قرائها، وتقديم خدماتها الإعلامية والصحفية عن بعد، وغطت بكل مسؤولية واقتدار جميع الأخبار والأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الراهنة، طيلة فترة الحجر الصحي، وواكبت التدابير والإجراءات المتخذة في مواجهة الوباء وتداعياته، ونقل صحافيوها ومراسلوها من مواقع الأحداث ومن صُناع الحدث، صورا حية عن مشاهد الحياة في زمن كورونا، وشملت التغطيات والأخبار أغلب الأجناس الصحفية من خبر وتعليق وتحليل وتحقيق وروبورطاج وحوار… كما واجهت الجريدة الأخبار الزائفة والإشاعات، مساهمة منها مع باقي الصحف ووسائل الإعلام الوطنية المسؤولة، في إفشاء الخبر الصادق والحجة الدامغة والحقيقة الميدانية، فردت الإساءات، وحدَّت من تفشي وباء الإشاعات وأضراره التي توازي تفشي وباء كورونا نفسه، بما أحاطت به إعلامها من أخلاق مهنية، وآداب في التحري والتحقيق والنشر.
ولهذا الاعتبار في زمن التعبئة الجماعية، التي أسهمت فيها صحفنا الورقية بمسؤولية عالية، وفي عمليات نشر الوعي الإيجابي في صفوف المواطنين، ودعم جهود الدولة والمجتمع في مقاومة الإحباطات وخطابات التيئيس والتشكيك، فإن استئناف الإصدار الورقي لصحفنا، بعد تحفيف إجراءات الحجر الصحي، لن يعيد فحسب الروح والحياة إلى هذه الجرائد والصحف، بتمكينها من استئناف عملها وفتح مقاولاتها، ودعم وفائها بالتزاماتها المالية والمهنية تجاه صحفييها ومستخدميها وكافة ذوي الحقوق، بل سيعيد الروح والحياة إلى معلمة من معالم الديموقراطية والحق في التعبير والرأي ببلادنا، والمتمثلة في المشهد المتنوع والمتعدد لإصداراتنا الصحفية والإعلامية، والتي لا يغني فيها الإعلام السمعي والبصري والرقمي عن طقوس القراءة الورقية التي تعد من ضرورات الحياة اليومية لقطاع واسع من المتتبعين والمهتمين بالخبر والرأي والنقاش العمومي الجاد والمسؤول.
ومع أن أزمة شح الموارد وضعفها وانخفاض الإيرادات طيلة الأشهر الثلاثة لفرض الخيار الرقمي على الإصدارات الصحفية، قد كادت تعصف بوجود وبقاء المقاولات الصحفية، فإن التزامات عدد من الناشرين بالصمود والمقاومة، والتزامات الدولة بسن إجراءات الإنقاذ والدعم الاستثنائي والمواكبة، قد حافظت على مناصب الشغل في قطاع الصحافة المكتوبة وقطاعات النشر والطبع والتوزيع، وعلى وتيرة أداء الأجور وصرفها، وأداء تحملات مالية ومادية أخرى ترتبط بمتطلبات العمل.
وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نتنبأ في الوقت الراهن بمصير الإصدارات الورقية ومستقبلها بعد الرفع التدريجي للحجر الصحي، وعودة الثقة إلى القراء في سلامة القراءة الورقية من العدوى ونقل الفيروس، فإن ما نحن متأكدون منه أنه لا يمكننا تصور الديموقراطية في البلاد بدون منابرها التي تعد الصحافة الوطنية المكتوبة عمادها وصورتها ومشهدها العمومي المبسوط بين يدي القراء والتاريخ والعالم أجمع، وأن اختفاء الورقي سواء في الصحافة أو الكتاب أو أي مطبوع كيفما كان نوعه لن يكون بالأمر السهل والعاجل في الوقت الراهن، ما دامت هذه المطبوعات والمنشورات الورقية تملأ الفراغ، وتؤدي دورها الدائم الذي لا يمكن لغيرها أن يقوم به أو يفوض إليه، وتشكل جزءا من تراث الأمة المادي والرمزي، وجزءا مهما من المشهد العمومي الذي تكتمل به صورة الحضارة والحداثة وحريات الرأي والتعبير.
فمهما تطلبت منا العودة إلى النشر الورقي، أي إلى وضعنا الطبيعي العادي، من مجهودات وتحملات، فإننا على يقين من أن صحافتنا الورقية ليست ترفا زائدا، وإنما هي ضرورة مجتمعية، تنتظرها مهمات أكبر في مرافقة نموذجنا التنموي المنتظر، والتعبئة الجماعية لاستحقاقات العشرية الثالثة من هذا القرن، ودعم المؤسسات الديموقراطية والحقوقية للبلاد. فما علينا بعد الانقشاع التدريجي للأزمة الصحية، إلا أن نواصل ضمان الاستمراية الإعلامية والصحافية، كخيار لا رجعة فيه، وأن نعمل على تحسين المحتوى الإعلامي والصحفي، وأن نستثمر في تكوين موارده البشرية واستقطاب أجيال إعلامية جديدة ونخب من الصحفيين، وهذا استثمار في مستقبل الوطن، وفي التنمية الإعلامية الوطنية التي بدونها لا قيام لأي تعبئة أو وعي نَرومُ إرساءهما.
ولعل إدراك الفاعلين السياسيين والقائمين على مهنة الصحافة والنشر وسائر المهتمين، للأدوار الكبرى التي قام بها إعلامنا وصحافتنا الوطنية، في المنعطف الوبائي، وللحاجة الماسة التي سدتها الصحافة الوطنية في نقل المعلومة الموثقة، وترويج الصحيح من الأخبار، والموضوعي من التحليلات والتعليقات، وتجفيف الإشاعات، أن يضع قطاع الصحافة والإعلام والنشر ضمن الأولويات التنموية المؤسساتية المعول عليها في تيسير الانتقال إلى الجيل الجديد من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والإقتصادية والثقافية والتربوية التي تنتظرنا.
فهنيئا لنا عودة الروح إلى صحافتنا الورقية، وبدء مسيرة جديدة موفقة ومشرفة في خدمة قرائها، وخدمة القضايا الكبرى للوطن والإنسانية، آملين أن ترتفع من طريقها تدريجيا كل العوائق المادية والعوارض النفسية التي تحول دون وصولها إلى قرائها وتداولها، مثلما يتداولون بالضرورة الأوراق البنكية والقطع النقدية والمواد والسلع، باتخاذ احتياطات وإجراءات السلامة الصحية المقررة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock