رأيمستجدات

الاستثمار المضاد

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

رغم أن المغرب بلد آمن استثماريا، ويخطو خطوات هامة في تطوير منظومته الحقوقية والديموقراطية، إلا أن ثمة مظاهر من الاحتقانات الاجتماعية والثقافية، تشي أن هناك خللا ما في القيم الأخلاقية وفي التربية على المواطنة وعلى العيش المشترك، وإذا أضيف لها التضخيم الإعلامي لظواهر الانحراف والشذوذ عن قاعدة الاستقرار، وتوسيع بؤر التوتر والتشنج، والتحريض على العنف، ونشر اليأس والإحباط، وتغذية مشاعر الكراهية والبغض والعنف، التي باتت وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة والدعاية المغرضة، تنميها يوما بعد يوم، وتكسبها من كثرة تكرارها والتوسع فيها مصداقية في الأذهان، فإن صورة هذا الأمن الاستثماري ستبدو لكل مطالع للأخبار ومتتبع للأحداث مهددة بالهشاشة والشلل والانهيار التام.

والحقيقة أن تحويل عدد من حوادث الاصطدامات والاضطرابات المتفرقة، التي يقع مثلها في سائر دول المعمور المتقدمة، إلى ظواهر طاغية على رهانات الإصلاح، يراد منه التشويش على الاستثناء المغربي القادر بمؤسساته الديموقراطية المنفتحة على استيعاب المتغيرات والتفاعل مع المطالب والانتظارات والتطلعات المجتمعية.

إن عمليات تحويل الحوادث المؤلمة في مسيرة البلاد، إلى ظواهر مهيمنة ومنفرة للمستثمرين ومحبطة للعاملين، ومشوهة لصورة الاستقرار والأمن والحريات، هو في حد ذاته استثمار مضاد، استثمار في الكراهية والهدم يدر على أصحابه ريعا على حساب وطن يمتصون جهوده وطاقاته، ويستغلون ثرواته البشرية وحرياته في جذب الويلات والتطرف والإرهاب إلى ساحاته.

لا يمكن والحالة هذه أن يمضي استثمار في تحسين عيش المواطنين، وفي إنتاج الثروات والاستفادة الجماعية منها، مع استثمار آخر في نقض مواثيق التعايش وهدم أسس البناء الحضاري للأمة. وإذا كان طريق البناء والإرساء شاقا وطويلا فإن طريق الهدم والتيئيس أيسر في بلوغ أهدافه وإصابة النفوس المهزوزة في مقتل.

ليس للمغرب من ثروات كبرى غير ثرواته البشرية وثقافته في التضامن والتعايش والعمل، ونشدان الخير والأمن والاستقرار للجميع، وإذا كانت هذه الثروات محط نظر المتربصين بها من صناع الكراهية والتطرف للاستحواذ على روحها وتوجيهها في خدمة استثماراتهم المضادة للاستثمار في استقرار الوطن وأمن المواطنين، فإن من شأن تحصينها من الدعايات المغرضة والكاذبة التي تضخم من السلبيات والتعثرات ، وتسود صورة الوطن في أعين المواطنين وسائر المتعاطفين مع نموذجه التنموي والديموقراطي، أن يزيل عقبة في مسيرة المغرب، ولا يتأتى ذلك بدون انخراط النخب الثقافية ورجال العلم والفكر والإعلام والتربية والمعرفة في تفكيك صناعة الكراهية والتيئيس ، وإيقاد شعلة الأمل في النفوس، ومخاطبتها بما ينمي لديها روح العمل والمسؤولية، ويجعلها بمنأى عن الاستغلال في ما يعود عليها بالضرر.

إن ما تتناقله الأخبار السائرة ووسائل التواصل الاجتماعي السريعة من تهويل مظاهر منحرفة في الاحتجاج على أوضاع اجتماعية لأفراد أو مجموعات، من مثل رفع شعارات مسيئة للوطن، والصدع بالتخلي عن جنسيته، وهجرته، وسب وشتم مواطنيه ومؤسساته، والطعن في مشاريعه وتسفيهها، لا تتناسب مع حجم الضرر العابر الذي يمكن رفعه بسلوكٍ مواطن ومسؤول، ولأن ثقافة الاحتجاج وطلب الحقوق جزء من الممارسة الديموقراطية، التي لا رجعة للبلد عنها، ينبغي أن لا تخرج عن إطارها الشرعي الضامن لبلوغ غايتها بتحصيل منافع ودفع مضار.

لقد آن الأوان لتتصدى مؤسسات الثقافة والتربية بالجدية اللازمة لهذه المظاهر المنحرفة في الاحتجاج، والتي يستثمر فيها ذوو الأغراض المشبوهة لزعزعة ثقة المواطنين والأجانب في استقرار الوطن وأمنه، وذلك بفتح حوارات حول مناعة نموذجنا المغربي في المواطنة والحريات، وحول مظاهر الكراهية والعنف السائدة في تواصلنا الاجتماعي والسياسي، وحول سبل مواجهة نقص المعرفة والتربية على الحقوق والحريات، وسداد هذا الفراغ الذي لا يمكن للمقاربة الأمنية أن تواجهه بدون أن تكون المقاربة الثقافية والمعرفية هي الأصل والقاعدة في المواجهة.

إن انسحاب التربية والثقافة المغربيتين من ساحة مواجهة الكراهية والعنف المتنامية، يترك الأبواب مشرعة لأمرين: لاستغلال تيارات التطرف لهذا الفراغ، ولتشديد المقاربة الأمنية وإنهاكها في معارك التصدي الدائم للاضطرابات.

إن المغرب بلد ناهض منفتح ومفتوح، ومجتمع متحرك ودينامي، ولا غرو أن تفرز أجواء الحرية والديموقراطية اعتراضات وانتقادات واحتجاجات، تصرف في قنواتها الدستورية والقانونية، المؤسساتية والحزبية والنقابية التي تضمن التجاوب معها والحوار بشأنها، وبناء تعاقدات حولها، فإن تركت هذه المؤسسات والهيئات أدوارها في التأطير والتوجيه واستثمار المطالب لصالح الوطن والمواطنين، فإن مستثمرين آخرين سيتسللون إليها للاستثمار في الغموض واليأس والفراغ والحيرة.

ليس لبلادنا إلا المضي في طريق الإصلاحات بثقة غامرة في مؤسساتها وفي مواطنيها وفي مشاريعها الواعدة، لكن هذه الثقة لا يمكنها أن تكون مجرد اعتقاد، إذ هي قبل كل شيء مناخ اجتماعي سليم، تنميه التربية والتعليم والثقافة ويدعمه الإعلام والفكر النزيهين، وتسهم فيه مبادرات النخب والأطر التي تتحمل مسؤولية التوعية والتحسيس والنقد البناء.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock